أخر الأخبار

عبدالنبي النديم يكتب: فترة من العزلة

عبدالنبي النديم
عبدالنبي النديم

عند الوصول إلى خريف العمر.. لا بد من الوقوف لفترة ليست بالقصيرة، والنظر إلى الخلف قليلا، ومتابعة الطريق الذي سار الإنسان فيه منذ مهده، وقفة يتخذ فيها كل منا محرابا يرتكن إليه منفردا لعزلة مع النفس، ليبدأ حديثا مع الروح، يرتقي فيها عن متاع الحياة الدنيا الصاخبة، محاولا ترويض النفس وتهذيبها، التي اختطفته طوال سنوات عمره حتى وصل إلى الخريف، لينظر متأملا إلى كل ما جناه وما ادخره لما هو آت..

وقفة ننظر فيها إلى عقبات حاولت أن تحطم وتعيق إبحار سفينة العمر، وآمال خادعة كانت طرقاتها مفروشة بالورود، وبين هذه وتلك، كان لهو الدنيا معولا ينخر فى بنيان كيان كل منا، حجب عن الأعين مآثر كانت من الممكن أن تغير المسار، ولأصبحت بمثابة قواعد قوية لقلاع صامدة فى وجه أى رياح عاتية قد تعصف بهذا البنيان، وتحمي الروح من الإغتيال بملذات النفس الأمارة بالسوء، وتحميها من خداع من أعطيناهم مفاتيح حياتنا وخزائن أسرارنا، فكانت سهام الغدر المسمومة التي أصابت الروح بالجفاء، وتركت كسرة في القلب كادت أن توقف نبضاته..

فعلى الرغم من أن الإنسان لا يحيا وحيدا، بإعتباره عماد الإعمار في الأرض، يحتاج إلى الصخب وأحيانا الصراخ بصوت عالى وسط كل خضم المحيطين به، والإندماج والترابط وإجادة التعامل مع الآخرين، إلا أنه يحتاج بعد كبد ومشقة الدنيا إلى هذه العزلة من الزمن، ينشد فيها السلام النفسي، يجلس فيها إلى حديث الروح، يعيد فيها حساباته، ويرتب أولوياته، ويقييم علاقاته مع البشر، وقبلها مع رب العباد من خلق البشر..

فعلى الرغم أن السواد الأعظم من الفلاسفة وفي مقدمتهم ابن خلدون الذي أكد في مقدمته «إن الإنسان اجتماعي بطبعه» أى أن الإنسان فطر على العيش مع الجماعة والتعامل مع الآخرين، فهو لا يقدر على العيش وحيدا بمعزل عنهم، مهما توفرت له سبل الراحة والرفاهية، وأن كلمة الإنسان جاءت من الأنس بالآخر، يستأنس بمن حوله ويتعايش معهم، يتبادل الأفكار والثقافات والعادات فيكتسب منهم ويكتسبون منه.

إلا أن هذه الأفكار فى الكثير من الأحوال لا تنطبق على ما يعيشه الفرد منا الآن، فأمراض النفس الأمارة بالسوء التي انتشرت في العصر الحديث، من طمع وخيانة وغدر .. إلخ الأمراض التى أصابت مفاصل المجتمع، والتى تراجعت معها الكثير من القيم الإنسانية والمفاهيم الأخلاقية، جعلت إختلاط الفرد منا بين البشر الآن، محاط بالريبة والتوجس والخوف من الأمراض العصرية، التى كانت سببا فى الكثير من الخلافات التى تصيب كيان المجتمع، بداية من الأسرة -اللبنة الأولى لبناء المجتمع - فأصبحت العزلة والإنطواء والهروب من العلاقات الإجتماعية إلا في أضيق الحدود سمة الحياة العصرية، فعدم الثقة بالآخرين والخوف من عواقب هذه العلاقات التي ينشئها الفرد مع من حوله يجعل الإنسان دائما يلجأ إلى الإنفراد بنفسه رغم الزحام والزخم الذي يحيط به..

فوقفة «خريف العمر» التي أنشدها، أحاول فيها أن أعيد إلى حياتي وروحي رونقا فقدته مع تسارع الأيام، ومرور سنوات العمر التي تتسلسل من بين يدي كالماء، إحاول إعادة النصاب والتوازن بين متطلبات الروح ورغبات الجسد وإعادة النظر فى علاقاتي مع الآخرين، بعيد عن كل الزحام المحيط بي، وأفضل مكان أرتكن فيه هو داخل نفسي بعيدا عن كل المحيطين، أتخذ من كهوف الزمن التي بنتها سنوات عمري السابقة داخل أعماقي السحيقة، ساحة للصراع مع أهوائي والجدال مع أطماعي، للخروج بكشف حساب عما سبق من سنوات عمري، ورسم خطط لما هو آت بعد حلول «خريف العمر».

فالعزلة داخل النفس هى أبعد وأقرب مكان يمكن البعد فيه عن البشر، حتى لو كنت قطعة لحم داخل زحام كتل من البشر، فأنت وحدك في داخلك وسرك لن تفضحه روحك، وكل من ما يبوح به قلبك لن تفضحه جوارحك وما يخطه عقلك لن تعترض عليه روحك، ونفسك الأمارة بالسوء لن يهذبها سوى الرضوخ إلى المبادئ التي سوف تتخذها في عزلتك مع الزمن، فما تتخذه العقول من قرارات يستوطن القلوب..

فالعزلة من الزمن إلتقاء سامي ننشده فى ظل معترك الحياة التى نخوض غمارها، تلتقي فيه الروح والعقل مع القلب والنفس الأمارة بالسوء، كل منهم يقول كلمته، وفى النهاية سيخرج الجميع بكيان جديد يمكن أن تكون نبته لحياة جديدة، تعيد تقيم العلاقات مع الآخر.. ولكن هل هناك نبته يمكن أن تخرج إلى النور فى الخريف؟

ترشيحاتنا